بناء مسجد أو حفر بئر من مال الزكاة: هل يجوز شرعاً؟

مقدمة: بين حق الفقير ورغبة الخير العام

في قلب كل مسلم محب للخير رغبة دفينة في ترك أثر باقي وعمل لا ينقطع أجره، ومن أعظم هذه الأعمال وأبقاها أثراً بناء مسجد يأوي المصلين، أو حفر بئر يروي الظامئين. وعندما يحين وقت إخراج الزكاة، يتساءل الكثير من أهل الخير: هل يمكنني أن أجمع بين فضيلتين، فأؤدي فريضة الزكاة وأقيم مشروعاً خيرياً عظيماً في نفس الوقت؟ هل يجوز دفع الزكاة للمشاريع الخيرية العامة هذه؟ هذا السؤال هو من صميم مسائل الفقه المعاصر التي تتطلب فهماً عميقاً لمقاصد الشريعة والفروقات الدقيقة بين أبواب الخير المختلفة. إن الإجابة على هذا التساؤل ليست مجرد “نعم” أو “لا”، بل هي رحلة في فهم مصرف “في سبيل الله”، وبيان الفرق بين الزكاة والصدقة الجارية، وهما مفهومان جوهريان يضع كل منهما العطاء في نصابه الصحيح. في هذا المقال، سنستعرض آراء الفقهاء قديماً وحديثاً، لنصل إلى إجابة واضحة تساعدك على توجيه مالك، زكاة كان أم صدقة، الوجهة الشرعية الصحيحة.

أساس المسألة: فهم مصرف “في سبيل الله”

تدور المسألة كلها حول تفسير الصنف السابع من مصارف الزكاة الثمانية التي ذكرها الله في القرآن الكريم: “وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ”.

  1. التفسير الكلاسيكي (قول جمهور الفقهاء): إن الرأي الذي عليه جماهير الفقهاء من المذاهب الأربعة (الحنفية، المالكية، الشافعية، والحنابلة) هو أن المقصود بمصرف “في سبيل الله” حصراً هو الجهاد بمعناه الشرعي، أي تجهيز الجيوش للدفاع عن ديار الإسلام، وشراء السلاح والعتاد، والإنفاق على المجاهدين المتطوعين وأسرهم.
    • حجتهم في ذلك:
      • الحصر: آية مصارف الزكاة بدأت بـ “إنما” وهي أداة حصر قوية، مما يعني أن المصارف محصورة في هذه الثمانية فقط. ولو كان معنى “في سبيل الله” يشمل كل أعمال الخير (ك بناء مسجد أو حفر بئر)، لكان ذكر الأصناف الأخرى (كالفقراء والمساكين) لا فائدة منه، لأنهم سيدخلون ضمن هذا المعنى العام.
      • التمليك: وهو شرط أساسي في الزكاة عند الجمهور. بمعنى أن الزكاة يجب أن تُعطى لشخص معين ليمتلكها (تمليك الفقير). والمشاريع العامة كالمساجد والآبار هي ملك للمنفعة العامة وليست ملكاً لشخص بعينه، فلا يتحقق فيها شرط التمليك.
    • بناءً على هذا القول (وهو القول الأقوى والأحوط): لا يجوز بناء مسجد من مال الزكاة، ولا يجوز حفر بئر من الزكاة، ولا إنشاء المدارس أو المستشفيات أو الطرقات، لأن هذه كلها مصالح عامة عظيمة، ولكن مكانها هو باب الصدقات والتبرعات، وليس باب الزكاة المفروضة.
  2. التفسير الموسع (قول بعض الفقهاء المعاصرين): ذهب بعض الفقهاء قديماً، وتوسع في هذا القول الكثير من العلماء والهيئات الشرعية المعاصرة، إلى أن معنى “في سبيل الله” أوسع من مجرد الجهاد العسكري.
    • حجتهم في ذلك:
      • المقصد العام: قالوا إن المقصد من الجهاد هو إعلاء كلمة الله ونشر دينه وحمايته. وفي عصرنا الحالي، قد تكون هناك وسائل أخرى تحقق نفس المقصد، مثل بناء المراكز الإسلامية والدعوية في بلاد الغرب، ودعم الدعاة وطلاب العلم الشرعي، وترجمة معاني القرآن، وغيرها من الأعمال التي تحفظ هوية الإسلام وتنشره.
    • بناءً على هذا القول: يجوز دفع الزكاة للمشاريع الخيرية التي تحقق مصلحة عامة ضرورية للمسلمين، خاصة إذا لم يوجد لها مصدر تمويل آخر من الصدقات والتبرعات. ومع ذلك، حتى أصحاب هذا القول الموسع يضعون ضوابط، ويقدمون دائماً حاجة الفقراء والمساكين على هذه المشاريع.

الفرق الجوهري بين الزكاة والصدقة الجارية

هنا يكمن مفتاح الفهم الصحيح وحل الإشكال. لقد فتحت الشريعة بابين للعطاء، لكل منهما خصائصه وهدفه:

  • الزكاة:
    • الحكم: فريضة واجبة وركن من أركان الإسلام.
    • الهدف الأساسي: حق معلوم للأفراد، هدفها الأول هو سد حاجة الفقير والمسكين والغارم وغيرهم من الأصناف الثمانية (تحقيق التكافل الفردي).
    • المصرف: محدد ومحصور في الأصناف الثمانية.
  • الصدقة الجارية (والتبرعات العامة):
    • الحكم: تطوع وسنة مستحبة، وهي من أعظم أبواب الخير.
    • الهدف الأساسي: تحقيق نفع عام مستمر للمجتمع.
    • المصرف: مفتوح وغير محصور، يشمل كل أبواب الخير.

عندما نفهم هذا الفرق بين الزكاة والصدقة الجارية، نجد أن: بناء مسجد هو من أفضل وأعظم أنواع الصدقة الجارية. حفر بئر هو مثال نموذجي للصدقة الجارية التي لا ينقطع أجرها. بناء المدارس والمستشفيات، وطباعة المصاحف، كلها من مصارف الصدقة الجارية والتبرعات العامة.

خاتمة: ضع كل عطاء في مكانه الصحيح

بعد هذا العرض، يتضح أن القول الأحوط والأبرأ للذمة، والذي عليه جماهير أهل العلم سلفاً وخلفاً، هو أن مال الزكاة المفروضة يجب أن يُصرف للأفراد من الأصناف الثمانية، وعلى رأسهم الفقراء والمساكين، لتحقيق مبدأ التمليك وسد حاجاتهم الشخصية المباشرة.

أما المشاريع الخيرية العظيمة كبناء المساجد وحفر الآبار ورعاية المراكز الإسلامية، فبابها المفتوح هو الصدقات الجارية والتبرعات العامة. فالمسلم الحصيف هو الذي يضع كل مال في موضعه الشرعي الصحيح، فيخصص زكاته الواجبة للأفراد المستحقين، ويخصص صدقاته وتبرعاته التطوعية للمشاريع العامة الباقية، فينال بذلك أجر الفريضة كاملاً، وأجر الصدقة الجارية عظيماً، ويساهم في بناء مجتمعه من كل أبواب الخير.

Scroll to Top