حكم زكاة الذهب الملبوس للزينة: هل هي واجبة؟

مقدمة: زينة المرأة بين الاستعمال الشخصي وحق الله المالي

في فقه الزكاة، تبرز مسائل دقيقة تظهر عمق الاجتهاد الفقهي الإسلامي وسعته، ولعل من أبرز هذه المسائل وأكثرها شيوعاً وانتشاراً بين الناس هي مسألة حكم زكاة الذهب المعد للزينة. فكل امرأة مسلمة تقريباً تملك قطعاً من الحلي الذهبي الذي تتزين به، وهنا يثور التساؤل المشروع: هل على حلي النساء زكاة؟ هل هذا الذهب الذي تحول من كونه كنزاً وثروة مدخرة إلى أداة للزينة والاستعمال الشخصي، يعامل نفس معاملة السبائك والدنانير الذهبية؟

لم تكن الإجابة على هذا السؤال واحدة، بل شهدت ساحة الفقه اختلاف العلماء في زكاة الحلي، حيث قدم كل فريق من الفقهاء أدلته واستنباطاته بناءً على فهمه للنصوص الشرعية ومقاصدها. هذا الخلاف ليس خلاف تضاد، بل هو خلاف تنوع ورحمة يُظهر ثراء الفقه الإسلامي. في هذا المقال المفصل، سنغوص في أعماق هذه المسألة، وسنعرض بشكل واضح ومحايد رأي كل فريق، أدلته، والردود عليها، لنصل في النهاية إلى فهم شامل يساعد المرأة المسلمة على اتخاذ القرار الذي يطمئن إليه قلبها وتبرأ به ذمتها، سواء تعلق الأمر بـ زكاة الذهب الملبوس أو غيره من الحلي.

الرأي الأول: لا تجب الزكاة في حلي المرأة المعد للزينة

هذا هو قول جمهور الفقهاء، ويمثل رأي المذاهب الثلاثة: المالكية، والشافعية، والحنابلة. حجتهم قوية وتقوم على أن الزكاة إنما تجب في الأموال النامية أو القابلة للنماء، والذهب الذي تتخذه المرأة للزينة والاستعمال الشخصي قد خرج عن كونه مالاً نامياً، وأصبح مثل ثيابها وبيتها وأثاثها، أي من حاجاتها ومقتنياتها الشخصية التي لا زكاة فيها بالإجماع.

أدلة أصحاب القول الأول (الجمهور):

  1. القياس على أموال القنية: قاسوا الحلي الملبوس على سائر المقتنيات الشخصية التي لا تجب فيها الزكاة. فكما لا تجب الزكاة في ثوب المرأة الذي ترتديه أو في بيت تسكنه، فكذلك لا تجب في حليها الذي تتزين به، لأن علة الاستعمال الشخصي قائمة في كليهما، مما يخرجه عن صفة “المال النامي”.
  2. الأدلة الأثرية (الآثار المروية عن الصحابة): استدلوا بآثار صحيحة وردت عن عدد من كبار الصحابة. فقد ورد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه سُئل عن الحلي: أفيه زكاة؟ قال: لا. كما ورد مثل ذلك عن ابن عمر، وعائشة، وأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم، أنهم كانوا لا يرون في حلي النساء زكاة. ومن المعروف أن فقه الصحابة وفعلهم هو من أقوى المصادر التي يستنير بها الفقهاء.
  3. تضعيف الأحاديث الموجبة للزكاة: يرى أصحاب هذا القول أن الأحاديث التي استدل بها الفريق الآخر، والتي توجب الزكاة في الحلي صراحةً، هي أحاديث لا تخلو من مقال في سندها، وأنها لا تقوى على معارضة الأصول العامة للشريعة والآثار الصحيحة عن الصحابة.

خلاصة رأي الجمهور: حكم زكاة الذهب المعد للزينة عندهم هو عدم الوجوب، طالما كان في حدود الاستعمال المعتاد ولم يصل إلى حد الكنز أو الإسراف المبالغ فيه الذي يخرجه عن حد الزينة المباحة.

الرأي الثاني: تجب الزكاة في حلي المرأة المعد للزينة

هذا هو قول المذهب الحنفي، وقد أيده عدد كبير من العلماء المعاصرين واللجان الشرعية، ويرونه القول الأحوط والأبرأ للذمة والأنفع للفقراء. حجتهم تقوم على أن النصوص التي أوجبت الزكاة في الذهب جاءت عامة ومطلقة، ولم تفرق بين ذهب وآخر.

أدلة أصحاب القول الثاني (الحنفية ومن وافقهم):

  1. عموم النصوص القرآنية والنبوية: استدلوا بعموم قوله تعالى: “وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ”. قالوا إن “الكنز” هو كل مال لم تؤدَّ زكاته، والحلي هو ذهب وفضة، فيدخل تحت عموم الآية. واستدلوا كذلك بعموم الأحاديث التي توجب الزكاة في الذهب إذا بلغ عشرين ديناراً، دون أن تفرق بين ما هو ملبوس وما هو مدخر.
  2. الأحاديث الخاصة بالمسألة: استدلوا بأحاديث محددة في المسألة، منها:
    • حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم ومعها ابنة لها وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب (أسورتان)، فقال لها: “أتؤدين زكاة هذا؟” قالت: لا. قال: “أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار؟” فخلعتهما المرأة وألقتهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: هما لله ورسوله. يرى أصحاب هذا القول أن هذا الحديث نص صريح وواضح في وجوب زكاة الذهب الملبوس.
    • حديث أم سلمة رضي الله عنها أنها كانت تلبس أوضاحاً من ذهب (نوع من الحلي)، فقالت: يا رسول الله، أكنز هو؟ فقال: “ما بلغ أن تؤدى زكاته فزكي فليس بكنز”. مفهوم الحديث أن ما لا تؤدى زكاته هو كنز، مما يدل على وجوب الزكاة فيه.

خلاصة رأي الحنفية: هل على حلي النساء زكاة؟ نعم، عندهم تجب الزكاة في كل أنواع الذهب والفضة إذا بلغت النصاب (85 جراماً للذهب) وحال عليها الحول، سواء كانت للزينة أو الادخار، وذلك أخذاً بظاهر النصوص وعمومها، وسداً لذريعة التحايل على الزكاة بادعاء أن الذهب مخصص للزينة.

الترجيح والخاتمة: كيف تختار المرأة المسلمة؟

بعد استعراض هذا اختلاف العلماء في زكاة الحلي، نجد أن كلا القولين له أدلته القوية ووجاهته. والمسلم العامي يمكنه أن يقلد أياً من المذهبين وهو على خير إن شاء الله. ولكن، العديد من الهيئات العلمية المعاصرة تنصح بالأخذ بالقول الثاني القائل بالوجوب، وذلك لعدة أسباب:

  1. أحوط للدين وأبرأ للذمة: إخراج الزكاة عن الحلي يخرج المسلمة من دائرة الخلاف ويجعلها على يقين من براءة ذمتها أمام الله.
  2. أنفع للفقراء والمساكين: الأخذ بهذا القول يزيد من حصيلة الزكاة في المجتمع، مما يعود بالنفع الكبير على الفئات المحتاجة، وهذا من أعظم مقاصد الزكاة.
  3. قوة الأحاديث الخاصة: الأحاديث التي استدل بها الحنفية، على الرغم من وجود كلام في أسانيد بعضها، إلا أنها متعددة الطرق ويقوي بعضها بعضاً، وهي نصوص خاصة بالمسألة، والخاص يقضي على العام.

كيفية الحساب لمن أخذت بالقول الثاني: إذا اختارت المرأة الأخذ بالرأي القائل بوجوب الزكاة، فإنها تقوم في يوم زكاتها السنوي بجمع كل الذهب الذي تملكه (للزينة والادخار)، وتقوم بوزنه. فإذا بلغ المجموع 85 جراماً أو أكثر، فإنها تقوم بتقييم قيمته المالية بسعر السوق الحالي، وتخرج 2.5% من هذه القيمة.

في النهاية، تبقى مسألة زكاة الذهب الملبوس مثالاً حياً على رحمة الشريعة وسعتها، وعلى عمق نظر الفقهاء. والاختيار بين القولين المعتبرين مبني على ما يطمئن له قلب المسلم، مع العلم أن الخروج من الخلاف بالأخذ بالرأي الأحوط هو دائماً مسلك الورع والتقوى.

Scroll to Top