مقدمة: بين حرية الفقير وتحقيق المصلحة، أين يكمن الصواب؟
مع دخول شهر رمضان أو اقتراب موعد إخراج الزكاة السنوي، يفكر الكثير من المزكين في أفضل السبل لإيصال حق الله إلى مستحقيه. وفي خضم هذا التفكير، يبرز سؤال عملي مهم: هل يجوز دفع الزكاة على شكل ملابس أو طعام بدلاً من المال؟ هل الأفضل أن أعطي الفقير مبلغاً نقدياً ليشتري ما يشاء، أم أن أشتري له أنا ما أراه مناسباً من مواد عينية كالأرز والسكر أو الكسوة والبطانيات؟ هذه المسألة، المعروفة فقهياً بمسألة إخراج الزكاة عيناً أو قيمةً، هي من المسائل التي نظر فيها الفقهاء بعمق، وكان محور اجتهادهم هو تحقيق “مصلحة الفقير” على الوجه الأكمل. في هذا المقال، سنستعرض آراء الفقهاء المختلفة في حكم دفع الزكاة غير نقدية، وسنوضح متى يكون الأصل هو إخراج قيمة بدل نقد، ومتى تكون المصلحة في تقديم المساعدة العينية، مع التمييز الدقيق بين زكاة المال وحكم إخراج زكاة الفطر طعام، لنصل إلى فهم متوازن يساعد المزكي على اتخاذ القرار الأنفع للمستحق.
الأصل في زكاة الأموال: الدفع من جنس المال
الأصل الذي عليه جمهور الفقهاء (المالكية والشافعية والحنابلة) هو أن زكاة الأموال النقدية (الذهب والفضة وما يقوم مقامهما من عملات ورقية) يجب أن تُخرج نقداً.
- السبب والحكمة: حجتهم في ذلك قوية وتقوم على عدة أسس:
- تمكين الفقير: إعطاء المال النقدي للفقير يجعله حراً في تلبية أولوياته التي لا يعلمها إلا هو. قد يكون بحاجة ماسة لدفع إيجار متأخر، أو سداد فاتورة كهرباء، أو شراء دواء ضروري، أو تسديد رسوم دراسية لأبنائه. إعطاؤه طعاماً أو ملابس في هذه الحالة قد لا يحل مشكلته الأساسية. فالمال النقدي أكثر مرونة وأنفع له في الغالب.
- حفظ كرامة الفقير: عندما يأخذ الفقير المال، فإنه يشتري حاجاته كأي شخص آخر من السوق، مما يحفظ كرامته ومشاعره، بعكس تلقي المساعدات العينية المباشرة التي قد تشعره بالحرج.
- التوافق مع طبيعة المال: الزكاة شُرعت من جنس المال نفسه. فزكاة الغنم من الغنم، وزكاة التمر من التمر، وزكاة المال النقدي تكون بالنقد.
بناءً على هذا الأصل، فإن دفع قيمة بدل نقد هو القاعدة الأساسية في زكاة الأموال.
الرأي الثاني: جواز إخراج القيمة للمصلحة
هذا هو مذهب الحنفية، وقد أخذ به الكثير من العلماء المعاصرين ولجان الفتوى، وهو قول يتميز بالمرونة ومراعاة الواقع. يرى أصحاب هذا القول أنه يجوز إخراج الزكاة عيناً (طعام، لباس، دواء، إلخ) إذا كانت في ذلك مصلحة راجحة ومحققة للفقير.
- ضوابط جواز الإخراج عيناً: هذا الجواز ليس مطلقاً، بل هو مقيد بتحقق المصلحة. ومن الحالات التي تكون فيها المصلحة واضحة:
- أوقات الكوارث والأزمات: في حالات المجاعات أو الفيضانات أو البرد القارس، قد يكون توفير الطعام والبطانيات والخيام للفقراء أنفع لهم وأكثر إلحاحاً من إعطائهم المال الذي قد لا يجدون ما يشترونه به.
- معرفة حاجة معينة للفقير: إذا كان المزكي يعرف يقيناً أن أسرة فقيرة معينة بحاجة ماسة إلى ثلاجة أو غسالة أو مواد غذائية أساسية، ويخشى إن أعطاهم المال أن ينفقوه في أمور أقل أهمية، فيجوز له شراء هذه الحاجة وتسليمها لهم مباشرة.
- إذا كان الفقير لا يحسن التصرف بالمال: في حالات نادرة، قد يكون الفقير شخصاً سفيهاً أو مريضاً لا يحسن تدبير شؤونه المالية، فيكون شراء حاجاته الأساسية له مباشرةً أحفظ لمال الزكاة وأنفع له.
فالعبرة عند هذا الفريق هي بتحقيق “سد الخلة” و”قضاء الحاجة” للفقير على أفضل وجه ممكن. فإذا كان دفع الزكاة غير نقدية يحقق هذا المقصد بشكل أفضل في حالة معينة، فإنه يصبح مشروعاً بل وربما أولى.
حالة خاصة ومهمة: حكم إخراج زكاة الفطر طعام
من الضروري جداً أن نفرق بين زكاة المال وزكاة الفطر. فبينما الأصل في زكاة المال هو النقد، فإن الأصل في زكاة الفطر هو الطعام.
- الدليل: لقد فرض النبي صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر “صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير”، وفي روايات أخرى “صاعاً من طعام”. وقد كان الصحابة يخرجونها طعاماً.
- الحكمة: الحكمة من إخراج زكاة الفطر طعام هي إغناء الفقراء عن السؤال يوم العيد، وتحقيق المواساة والمشاركة المجتمعية في الطعام والشراب، لتكتمل فرحة العيد لدى الجميع.
- الخلاف في إخراج القيمة: على الرغم من أن بعض الفقهاء (كالحنفية) أجازوا إخراج قيمتها نقداً للمصلحة، إلا أن جمهور العلماء يرون أن إخراجها طعاماً هو السنة المتبعة والأقرب لمقصدها التشريعي الأصلي.
خاتمة: فقه المصلحة في إيصال الحقوق
في ختام هذه المسألة الدقيقة، يمكننا القول إن الأصل في زكاة الأموال النقدية هو إخراجها نقداً، لما في ذلك من تمكين للفقير وحفظ لكرامته. ومع ذلك، تظل الشريعة الإسلامية مرنة وحكيمة، فتجيز إخراج الزكاة عيناً عندما تقتضي المصلحة الحقيقية والواضحة للفقير ذلك. فالمزكي الحصيف هو الذي لا يكتفي بإخراج المال كيفما اتفق، بل يتحرى ويبحث عن الطريقة الأنفع لإخوانه المحتاجين، مستحضراً دائماً أن الهدف الأسمى من الزكاة هو إغناء الفقير وسد حاجته، سواء كان ذلك بـ قيمة بدل نقد أو بمساعدة عينية مباشرة.