مقدمة: الدين بين ذمة الدائن والمدين، أين حق الله؟
تعتبر الديون جزءاً لا يتجزأ من المعاملات المالية بين الناس، فهي وسيلة لقضاء الحوائج وتفريج الكروب وتيسير أمور التجارة والحياة. وفي خضم هذه المعاملات، تنشأ أسئلة فقهية دقيقة حول زكاة الدين. فإذا أقرضت شخصاً مبلغاً من المال، فهل هذا المال ما زال في ملكك وتجب عليك زكاته كل عام؟ وكيف يزكي من له دين على الناس؟ وعلى الجانب الآخر، إذا كنت أنت من اقترض مالاً، هل الدين يمنع الزكاة عن الأموال التي في يدك؟ إن الإجابة على هذه الأسئلة ضرورية لضمان براءة الذمة، فالدين حق للعبد، والزكاة حق لله تعالى، والشريعة الإسلامية جاءت لتنظم هذه الحقوق وتضع كلاً منها في نصابه الصحيح. في هذا الدليل المفصل، سنستكشف أحكام زكاة الدين من وجهتي نظر الدائن (المُقرِض) والمدين (المُقترِض)، وسنوضح بالتفصيل كيفية حساب زكاة المال المقترض والمال المُقرَض، لنقدم رؤية متكاملة تزيل اللبس وتعين المسلم على أداء فريضته على بصيرة.
الجزء الأول: زكاة الدائن (من أقرض المال)
إذا كنت أنت من أقرضت المال لشخص آخر، فإن طريقة حساب زكاتك على هذا الدين تعتمد بشكل أساسي على حالة الشخص المدين وقدرته على السداد. وقد قسم الفقهاء الدين الذي لك على الغير إلى نوعين:
1. الدين على المليء الباذل (دين مرجو السداد)
- التعريف: “المليء” هو الشخص الغني القادر على سداد الدين. و”الباذل” هو الشخص الذي لا يماطل ويعترف بالدين ومستعد لسداده متى طُلب منه. الدين الذي على هذا الشخص هو دين قوي ومضمون، ويعتبر في حكم المال الموجود تحت يدك.
- الحكم: أجمع الفقهاء على أن هذا الدين تجب فيه الزكاة.
- كيفية الحساب: يجب على الدائن (صاحب المال) أن يضيف مبلغ هذا الدين إلى مجموع أمواله الزكوية الأخرى (مثل النقد والذهب وعروض التجارة) في كل عام، ويزكي المبلغ الإجمالي إذا بلغ النصاب.
- مثال: “علي” أقرض صديقه “صالح” (وهو شخص مقتدر ومعروف بأمانته) مبلغ 200,000 دينار جزائري. في يوم زكاته السنوي، كان علي يملك مدخرات نقدية بقيمة 700,000 دينار.
- الوعاء الزكوي لعلي = مدخراته النقدية + الدين المرجو السداد
- الوعاء الزكوي = 700,000 + 200,000 = 900,000 دينار.
- يقارن علي هذا المبلغ بالنصاب، فإذا كان بالغاً له، يخرج زكاته بنسبة 2.5% على المبلغ كاملاً (900,000 د.ج).
- ملاحظة: يكرر علي هذا الحساب كل عام، حتى لو لم يستلم الدين بعد.
2. الدين على المعسر أو المماطل (دين غير مرجو السداد)
- التعريف: “المعسر” هو الشخص الفقير الذي لا يملك ما يسدد به الدين. و”المماطل” هو الشخص الذي يتهرب من سداد الدين وينكره على الرغم من قدرته على الدفع. الدين الذي على هذين الشخصين هو دين ضعيف وغير مضمون التحصيل.
- الحكم: هنا تكمن رحمة الشريعة وتيسيرها. لا تجب عليك زكاة هذا الدين كل عام، لأنه مال غير مقدور على الانتفاع به.
- كيفية الحساب: الراجح من أقوال الفقهاء أنك لا تزكي هذا الدين عن الأعوام الماضية. ولكن، عندما تقبض هذا الدين أو جزءاً منه، فإنك تزكيه عن عام واحد فقط، حتى لو بقي عند المدين لسنوات طويلة.
- مثال: “علي” أقرض شخصاً آخر مبلغ 300,000 دينار، وهذا الشخص أفلس ولم يتمكن من السداد لمدة خمس سنوات. في السنة السادسة، تحسنت أحوال هذا الشخص وسدد الدين كاملاً لعلي.
- عندما يستلم علي مبلغ الـ 300,000 دينار، فإنه يخرج زكاته لعام واحد فقط.
- مقدار الزكاة = 300,000 × 2.5% = 7,500 دينار.
- بعد ذلك، يضم المبلغ المتبقي (292,500 د.ج) إلى أمواله، ويدخل في حساب الزكاة السنوي للأعوام القادمة.
الجزء الثاني: زكاة المدين (من اقترض المال)
الآن ننتقل إلى الطرف الآخر، وهو الشخص الذي عليه دين. والسؤال هنا: هل الدين يمنع الزكاة عن الأموال التي في يده؟ أي، هل يحق له أن يخصم ديونه من أمواله قبل حساب الزكاة؟ هذه من المسائل التي وقع فيها خلاف بين أهل العلم.
- الرأي الأول (الدين يمنع الزكاة): يرى أصحاب هذا القول (وهو مذهب الحنابلة والحنفية) أن الدين يُسقط الزكاة أو يُنقص من الوعاء الزكوي. حجتهم أن الزكاة شُرعت للمواساة، والمدين هو نفسه بحاجة للمواساة، فكيف نوجب عليه زكاة وهو غارق في الدين؟ فلو أن شخصاً يملك مليون دينار وعليه دين مليون دينار، فلا زكاة عليه.
- الرأي الثاني (الدين لا يمنع الزكاة): يرى أصحاب هذا القول (وهو مذهب الشافعية) أن الدين حق في ذمة الشخص، والزكاة حق في عين المال الموجود. فإذا كان الشخص يملك مالاً بلغ النصاب وحال عليه الحول، وجبت فيه الزكاة، ولا علاقة للدين الذي عليه بذلك.
الترجيح والتفصيل العملي:
جمع كثير من العلماء المعاصرين بين القولين وقدموا تفصيلاً عملياً هو الأقرب للعدل والمصلحة، وهو التفريق بين أنواع الديون:
- الديون الحالة قصيرة الأجل: هي الديون التي يجب سدادها فوراً أو خلال فترة قصيرة (مثل فواتير مستحقة، إيجار، ديون للموردين). هذه الديون يجوز خصمها من الأموال الزكوية قبل حساب الزكاة، لأنها تنقص من المال الذي تحت تصرفك فعلياً.
- الديون المؤجلة طويلة الأجل: هي الديون التي يتم سدادها على أقساط لسنوات طويلة (مثل قرض سكني لمدة 20 عاماً، أو قرض سيارة لمدة 5 سنوات). هذه الديون لا يجوز خصمها بالكامل من وعائك الزكوي. فلا يعقل أن يمتلك شخص ملايين في حسابه البنكي ويكون معفياً من الزكاة لمجرد أن عليه قرضاً عقارياً طويل الأجل.
- ماذا يفعل؟ الراجح أنه يخصم فقط القسط السنوي المستحق عليه من هذا الدين، ثم يزكي الباقي.
مثال على زكاة المال المقترض: “سعيد” يملك مدخرات بقيمة 2 مليون دينار. وعليه قرض سكني متبقٍ منه 5 ملايين دينار، يسدد منه قسطاً سنوياً قدره 300,000 دينار.
- عند حساب زكاته، لا يخصم كامل الـ 5 ملايين.
- الوعاء الزكوي = مدخراته – القسط السنوي المستحق
- الوعاء الزكوي = 2,000,000 – 300,000 = 1,700,000 د.ج
- يزكي مبلغ 1,700,000 د.ج.
خاتمة: فقه الدين يحفظ الحقوق
إن فقه زكاة الدين هو ميزان دقيق يحفظ حق الفقير في مال الغني، ويراعي في الوقت نفسه ظروف المدين والدائن. فعلى الدائن أن يعرف كيف يزكي من له دين على الناس بالنظر إلى حال المدين، وعلى المدين أن يفهم هل الدين يمنع الزكاة ومتى يمكنه خصم ديونه.