مقدمة: “الحول” الشرط الزمني لوجوب الزكاة
بعد أن يبلغ المال المملوك للمسلم حداً معيناً من الغنى وهو “النصاب”، لا تجب فيه الزكاة على الفور، بل لا بد من تحقق شرط زمني دقيق وحكيم، ألا وهو “الحول”. ما هو الحول في الزكاة؟ إنه مرور عام هجري كامل على ملكية المال البالغ للنصاب. هذا الشرط الزمني ليس تعقيداً، بل هو منتهى الحكمة والرحمة، فهو يمنح المال فرصة للاستقرار والنماء، ويعطي المالك وقتاً كافياً للتصرف في ماله وتنميته قبل أن يجب عليه الحق المعلوم فيه. إن فهم شروط الحول وكيفية حسابه بدقة هو من أهم مسائل فقه الزكاة، حيث يترتب عليه صحة توقيت إخراج الزكاة وبراءة ذمة المسلم. في هذا المقال المفصل، سنقدم شرحاً وافياً لمفهوم الحول، ونستعرض الأدلة على مشروعيته، ونجيب على السؤال الأهم: متى يبدأ حساب الحول لمختلف أنواع الأموال، مثل الرواتب، والأرباح، والميراث؟ لنضمن أن يكون حساب الزكاة السنوي لكل مسلم قائماً على أساس شرعي صحيح.
تعريف الحول وأدلته الشرعية
لغةً، “الحول” هو العام أو السنة. واصطلاحاً في فقه الزكاة، هو “مضي اثني عشر شهراً قمرياً (عام هجري) على امتلاك النصاب”. والدليل على اشتراط الحول لوجوب الزكاة هو ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث عدة، من أشهرها قوله: “لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول”. على الرغم من أن بعض المحدثين قد ضعفوا هذا الحديث بعينه، إلا أن الأمة قد تلقت مضمونه بالقبول، وأجمع العلماء والفقهاء على اشتراط الحول في زكاة بهيمة الأنعام، والذهب والفضة، وعروض التجارة، والأموال النقدية، مما جعله شرطاً ثابتاً ومستقراً.
الحكمة من اشتراط الحول
تتجلى حكمة الشارع في فرض شرط الحول في عدة جوانب:
- تحقيق النماء الفعلي: مرور عام كامل على المال هو مظنة نمائه وزيادته، سواء كان هذا النماء حقيقياً (بالتجارة والاستثمار) أو تقديرياً (ببقائه قابلاً للنماء). فالزكاة تجب في المال النامي، والحول هو الدليل الزمني على هذا النماء.
- التيسير على أصحاب الأموال: يمنح الحول المالك فترة كافية لإدارة أمواله وتخطيط شؤونه المالية دون أن يفاجأ بوجوب الزكاة على كل مبلغ يدخل في حوزته فوراً.
- ضبط عملية الزكاة: يجعل الحول عملية إخراج الزكاة دورية ومنظمة (سنوية)، مما يسهل على الفرد حسابها، وعلى الدولة أو الجهات الخيرية تنظيم جمعها وتوزيعها.
متى يبدأ حساب الحول؟ (أمثلة عملية)
هذه هي النقطة الأكثر أهمية والتي تثير الكثير من الأسئلة. بداية حساب الزكاة السنوي تختلف باختلاف كيفية تملك المال. القاعدة العامة هي: يبدأ حساب الحول من اليوم الذي يبلغ فيه المال المملوك حد النصاب.
- مثال 1: المال المدخر من الراتب لنفترض أن موظفاً بدأ في الادخار من راتبه في شهر محرم 1447هـ. وظل يدخر شهراً بعد شهر. وفي شهر رجب من نفس العام، وصل مجموع مدخراته إلى حد النصاب (مثلاً مليون دينار جزائري). هنا يبدأ حساب الحول. أي أن حوله يبدأ من شهر رجب 1447هـ وينتهي في شهر رجب من العام التالي 1448هـ. في هذا التاريخ، ينظر إلى كل ما يملكه من مال ويزكيه، حتى المال الذي ادخره بعد بلوغ النصاب.
- مثال 2: الميراث أو الهبة شخص ورث مبلغاً من المال (أو حصل عليه كهدية) يفوق حد النصاب في يوم 15 رمضان 1447هـ. يبدأ حساب حوله مباشرة من يوم 15 رمضان 1447هـ. وتجب عليه الزكاة في 15 رمضان 1448هـ، إذا كان المال لا يزال بالغاً للنصاب في ذلك التاريخ.
- مثال 3: أرباح التجارة تاجر بدأ مشروعه برأس مال يفوق النصاب. حول أرباحه هو نفس حول رأس ماله. لا يشترط لكل ربح جديد حولاً مستقلاً. يقوم التاجر بتحديد يوم في السنة (يوم الزكاة) يقوم فيه بجرد كل ما لديه من بضاعة ونقود وأرباح، ويزكي المجموع الكلي. هذا من باب التيسير.
- مثال 4: المال المتقطع (المال المستفاد) هنا تكمن الدقة. إذا كان شخص يملك مالاً بالغاً للنصاب، ثم اكتسب مالاً جديداً من نفس جنس المال (مثلاً، لديه مدخرات ثم حصل على مكافأة)، فإنه يضيف المال الجديد إلى القديم ويزكيهما معاً عند حولان الحول الأصلي. هذا أيسر في الحساب وأكثر أماناً. أما إذا لم يكن يملك نصاباً من قبل، ثم اكتسب مالاً جديداً فبلغ به النصاب، بدأ حوله من يوم اكتساب المال الجديد.
مسألة مهمة: زكاة المال الذي لم يمر عليه حول
القاعدة هي أن زكاة المال الذي لم يمر عليه حول لا تجب استقلالاً. ولكن، كما ذكرنا في المثال الرابع، إذا كان هذا المال الجديد نماءً أو ربحاً لمال أصلي بالغ للنصاب، فإنه يزكى مع الأصل عند حولان حول الأصل. مثلاً، شخص يملك 100 مليون سنتيم، وحوله في رمضان. وفي شهر شعبان (قبل رمضان بشهر)، ربح 20 مليون سنتيم إضافية. فإنه في رمضان، يزكي المبلغ كاملاً (120 مليون سنتيم)، ولا ينتظر حولاً جديداً للمبلغ الإضافي.
أموال لا يشترط لها الحول
من رحمة الله وتيسيره، هناك أموال تجب فيها الزكاة فور الحصول عليها ولا يشترط لها الحول، لأن نماءها يتحقق بحصادها وجنيها، وهي:
- الزروع والثمار: تجب زكاتها يوم حصادها، لقوله تعالى: “وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ”.
- عسل النحل والمعادن والركاز (الكنوز المدفونة): تجب الزكاة فيها عند الحصول عليها مباشرة.
خاتمة: الدقة في الحساب أساس قبول العبادة
إن مفهوم الحول في الزكاة هو تجسيد للدقة والنظام في العبادات المالية الإسلامية. فهو ليس مجرد شرط زمني، بل هو ميزان يضمن أن الزكاة تؤخذ من مال نامٍ ومستقر. وعلى كل مسلم حريص على دينه أن يحدد لنفسه يوماً زكوياً سنوياً، يضبط فيه بداية حساب الحول لأمواله، ويحرص على تأدية هذا الحق في وقته المحدد، فلا يقدمه إلا بنية التعجيل بالخير، ولا يؤخره إلا لعذر قاهر. فالدقة في حساب الحول هي جزء لا يتجزأ من تأدية هذه الفريضة العظيمة على أكمل وجه.